ic">أحد أولي العزم الخمسة الكبار الذين اخذ الله منهم ميثاقا غليظا، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.. بترتيب بعثهم. وهو النبي الذي ابتلاه الله ببلاء مبين. بلاء فوق قدرة البشر وطاقة الأعصاب. ورغم حدة الشدة، وعنت البلاء.. كان إبراهيم هو العبد الذي وفى. وزاد على الوفاء بالإحسان.. قال تعالى في سورة (النجم):
"وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى" (37) (النجم)
وقد كرم الله تبارك وتعالى إبراهيم تكريما خاصا، فجعل ملته هي التوحيد الخالص النقي من الشوائب. وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه. قال تعالى في سورة (البقرة):
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) (البقرة)
وأثنى الله سبحانه على إبراهيم فقال في سورة (النحل):
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) (النحل)
وكان من فضل الله على إبراهيم أن جعله الله إماما للناس. وجعل في ذريته النبوة والكتاب. فكل الأنبياء من بعد إبراهيم هم من نسله فهم أولاده وأحفاده. حتى إذا جاء آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، جاء تحقيقا واستجابة لدعوة إبراهيم التي دعا الله فيها أن يبعث في الأميين رسولا منهم.
ولو مضينا نبحث في فضل إبراهيم وتكريم الله له فسوف نمتلئ بالدهشة. نحن أمام بشر جاء ربه بقلب سليم. إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قال أسلمت لرب العالمين. نبي هو أول من سمانا المسلمين. نبي كان جدا وأبا لكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده. نبي هادئ متسامح حليم أواه منيب. قال تعالى في سورة (هود):
"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ" (75) (هود)
وقال في سورة (الصافات):
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) (الصافات)
يذكر لنا ربنا ذو الجلال والإكرام أمرا آخر أفضل من كل ما سبق. فيقول الله عز وجل في محكم آياته:
وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً
لم يرد في كتاب الله ذكر لنبي، اتخذه الله خليلا غير إبراهيم. قال العلماء: الخُلَّة هي شدة المحبة. وبذلك تعني الآية: واتخذ الله إبراهيم حبيبا. فوق هذه القمة الشامخة يجلس إبراهيم عليه الصلاة والسلام. إن منتهى أمل السالكين، وغاية هدف المحققين والعارفين بالله.. أن يحبوا الله عز وجل. أما أن يحلم أحدهم أن يحبه الله، أن يفرده بالحب، أن يختصه بالخُلَّة وهي شدة المحبة.. فذلك شيء وراء آفاق التصور. كان إبراهيم هو هذا العبد الرباني الذي استحق أن يتخذه الله خليلا.
لا يتحدث القرآن عن ميلاده أو طفولته، ولا يتوقف عند عصره صراحة، ولكنه يرسم صورة لجو الحياة في أيامه، فتدب الحياة في عصره، وترى الناس قد انقسموا ثلاث فئات:
· فئة تعبد الأصنام والتماثيل الخشبية والحجرية.
· وفئة تعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر.
· وفئة تعبد الملوك والحكام.
وفي هذا الجو ولد إبراهيم. ولد في أسرة من أسر ذلك الزمان البعيد. لم يكن رب الأسرة كافرا عاديا من عبدة الأصنام، كان كافرا متميزا يصنع بيديه تماثيل الآلهة. وقيل أن أباه مات قبل ولادته فرباه عمه، وكان له بمثابة الأب، وكان إبراهيم يدعوه بلفظ الأبوة، وقيل أن أباه لم يمت وكان آزر هو والده حقا، وقيل أن آزر اسم صنم اشتهر أبوه بصناعته.. ومهما يكن من أمر فقد ولد إبراهيم في هذه الأسرة.
رب الأسرة أعظم نحات يصنع تماثيل الآلهة. ومهنة الأب تضفي عليه قداسة خاصة في قومه، وتجعل لأسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع. هي أسرة مرموقة، أسرة من الصفوة الحاكمة.
من هذه الأسرة المقدسة، ولد طفل قدر له أن يقف ضد أسرته وضد نظام مجتمعه وضد أوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوم والكواكب وضد كل أنواع الشرك باختصار.
كان عقله مضيئا منذ طفولته. أضاء الله قلبه وعقله وآتاه الحكمة منذ طفولته. أدرك إبراهيم وهو طفل أن أباه يصنع تماثيل غريبة. وسأله يوما عما يصنع، فأخبره أنها تماثيل الآلهة، ودهش إبراهيم وأحس داخل عقله بالرفض.
يحدثنا القديس برنابا على لسان عيسى كيف سخر إبراهيم من أبيه وهو طفل. يقول:
إن إبراهيم سأل والده يوما: من صنع الإنسان يا أبي؟
قال الأب: الإنسان، لأني أنا صنعتك وأبي صنعني.
أجاب إبراهيم: ليس الأمر كذلك يا أبي. لأني سمعت شيخا ينتحب ويقول: يا إلهي.. لماذا لم تعطني أولادا؟
قال الأب: حقا يا بني.. الله يساعد الإنسان ليصنع إنسانا، ولكنه لا يضع يده فيه.
قال إبراهيم: كم إلها هناك يا أبي؟
أجاب الشيخ: لا عدد لهم يا بني.
قال إبراهيم: ماذا أفعل يا أبي إذا خدمت إلها وأراد بي الآخر شرا لأني لم اخدمه؟ ماذا لو وقع شقاق وخصام بين الآلهة؟ ماذا لو قتل الإله الذي يريد بي شرا إلهي؟ ماذا أفعل..؟ من المؤكد أنه يقتلني أنا أيضا.
أجاب الشيخ ضاحكا: لا تخف يا بني لأنه لا يخاصم إله إلها آخر. في الهيكل الكبير ألوف من الآلهة مع الإله الكبير بعل، وقد بلغت الآن سبعين سنة من العمر ومع ذلك لم أر إلها قط ضرب إلها آخر.
قال إبراهيم: إذن يوجد وفاق بينهم.
أجاب أبوه: نعم يوجد.
قال إبراهيم: من أي شيء تصنع الآلهة؟
قال الشيخ: هذا من خشب النخل، وذاك من الزيتون، وذلك التمثال الصغير من العاج. انظر ما أجمله.. حقا لا ينقصه إلا التنفس.
قال إبراهيم: إذا لم يكن للآلهة نفس فكيف يهبون الأنفاس؟ وإذا لم تكن لهم حياة فكيف يعطون الحياة؟ من المؤكد يا أبي إن هؤلاء ليسوا هم الله!
حنق الشيخ لهذا الكلام وقال ثائرا: لو كنت بالغا من العمر ما تتمكن معه من الإدراك لشججت رأسك بهذه الفأس.
قال إبراهيم: يا أبي.. إن كانت الآلهة تساعد على صنع الإنسان فكيف يتأتى للإنسان أن يصنع آلهة؟ إذا كانت الآلهة مصنوعة من الخشب فإن إحراق الخشب خطيئة كبرى. ولكن قل لي يا أبت.. كيف وأنت تساعد الآلهة وتصنع منها أعدادا هائلة.. كيف لم تساعدك الآلهة لتصنع أولادا كثيرين فتصير أقوى رجل في القرية؟
انتهى الحوار بينهما بأن مد الأب يده وضرب إبراهيم.
ومرت الأيام.. وكبر إبراهيم.. كان قلبه يمتلأ من طفولته بكراهية صادقة لهذه التماثيل التي يصنعها والده. لم يكن يفهم كيف يمكن لإنسان عاقل أن يصنع بيديه تمثالا، ثم يسجد بعد ذلك لما صنع بيديه. لاحظ إبراهيم إن هذه التماثيل لا تشرب ولا تأكل ولا تتكلم ولا تستطيع أن تعتدل لو قلبها أحد على جنبها. كيف يتصور الناس أن هذه التماثيل تضر وتنفع؟!
عذبت هذه الفكرة إبراهيم طويلا. أيمكن أن يكون كل قومه على خطأ، وهو وحده على الحق؟ أليس هذا شيئا مدهشا؟.
يتبع
]